الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)} عَطفت الفاء الاستفهامَ على جملة {قالَ هل أنتُم مُطَّلعون} [الصافات: 54]، فالاستفهام موجه من هذا القائل إلى بعض المتسائلين. وهو مستعمل في التقرير المراد به التذكير بنعمة الخلود فإنه بعد أن أطلعهم على مصير قرينه السوء أقبل على رفاقه بإكمال حديثه تحدثاً بالنعمة واغتباطاً وابتهاجاً بها، وذكراً لها فإن لذكر الأشياء المحبوبة لذة فما ظنك بذكر نعمة قد انغمسوا فيها وأيقنوا بخلودها. ولعل نظم هذا التذكر في أسلوب الاستفهام التقريري لقصد أن يسمع تكرر ذكر ذلك حين يجيبه الرفاق بأن يقولوا: نعم ما نحن بميتين. والاستثناء في قوله: {إلاَّ مَوتَتَنَا الأولى} منقطع لأن الموت المنفي هو الموت في الحال، أو الاستقبال كما هو شأن اسم الفاعل فتعيّن أن المستثنى غير داخل في المنفي فهو منقطع، أي لكن الموتة الأولى. وذلك الاستدراك تأكيد للنفي. وانتصابه لأجل الانقطاع لا لأجل النفي. وعطف {وما نحن بِمُعَذَّبِينَ} ليتمحّض الاستفهام للتحدث بالنعمة لأن المشركين أيضاً ما هم بميتين ولكنهم معذَّبون فحالهم شرّ من الموت. قيل لبعض الحكماء: ما شرّ من الموت؟ فقال: الذي يُتمنى فيه الموت. والظاهر أن جملة {إنَّ هذا لهو الفَوزُ العظِيمُ} حكاية لبقية كلام القائل لرفاقه، فهي بمنزلة التذييل والفذلكة لحالتهم المشاهدِ بعضُها والمتحدثثِ عن بعضها بقوله: {أفما نحنُ بِمَيّتِين. والفوز}: الظفر بالمطلوب، أي حالنا هو النجاح والظفر العظيم. وقد أُبدع في تصوير حسن حالهم بحصر الفوز فيه حتى كان كل فوز بالنسبة إليه ليس بفوز، فالحصر للمبالغة لِعدم الاعتداد بغيره ثم ألحقوا ذلك الحصر بوصفه ب {العظيم.
{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)} هذا تذييل لحكاية حال عباد الله المخلصين فهو كلام من جانب الله تعالى للتنويه بما فيه عباد الله المخلصون، وللتحريض على العمل بمثل ما عمِلوه مما أوجب لهم إخلاصَ الله إياهم، فالإِشارة في قوله: {لمِثللِ هذا} إلى ما تضمنه قوله: {أولئك لهم رِزقٌ معلوم} [الصافات: 41] الآيات، أي لمثل نعيمهم وأنسهم ومسرتهم ولذّاتهم وبهجتهم وخلود ذلك كله. والمراد بمثله: نظيره من نعيممٍ لِمخلصين آخرين. والمراد بالعاملين: الذين يعملون الخير ويسيرون على ما خطّت لهم شريعة الإِسلام، فحذف مفعول «يعمل» اختصاراً لظهوره من المقام. واللام في {لِمِثْلِ} لام التعليل. وتقديم المجرور على عامله لإِفادة القصر، أي لا لعمل غيره، وهو قصر قلب للرد على المشركين الذين يحسبون أنهم يعملون أعمالاً صالحة يتفاخرون بها من الميْسر، قال تعالى: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} [الكهف: 103- 104]. والمعنى: لنوال مثل هذا، فحذف مضاف لدلالة اللام على معناه. والفاء للتفريع على مضمون القصة المذكورة قبلها من قوله: {إلاَّ عِبَادَ الله المُخلصين} [الصافات: 40] الآيات. والأمر في {فليعمل} للإِرشاد الصادق بالواجبات والمندوبات.
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)} استئناف بعد تمام قصة المؤمن ورفاقه قصد منه التنبيه إلى البون بين حال المؤمن والكافر جرى على عادة القرآن في تعقيب القصص والأمثال بالتنبيه إلى مغازيها ومواعظها. فالمقصود بالخبر هو قوله: {إنَّا جعلناهَا،} أي شجرة الزقوم {فتنة للظالمين} إلى آخرها. وإنما صيغ الكلام على هذا الأسلوب للتشويق إلى ما يرد فيه. والاستفهام مكنى به عن التنبيه على فضل حال المؤمن وفوزه وخسار الكافر. وهو خطاب لكل سامع. والإِشارة ب {أذلك} إلى ما تقدم من حال المؤمنين في النعيم والخلود، وجيء باسم الإِشارة مفرداً بتأويل المذكور، بعلامة بُعد المشار إليه لتعظيمه بالبعد، أي بعد المرتبة وسُموّها لأن الشيء النفيس الشريف يتخيل عالياً والعالي يلازمه البُعد عن المكان المعتاد وهو السفل، وأين الثريا من الثرى. والنزُل: بضمتين، ويقال: نُزْل بضم وسكون هو في أصل اللغة: المكان الذي ينزل فيه النازل، قاله الزجاج. وجرى عليه صاحب «اللسان» وصاحب «القاموس»، وأُطلق إطلاقاً شائعاً كثيراً على الطعام المهيّأ للضيف لأنه أعدّ له لنزوله تسمية باسم مكانه نظير ما أطلقوا اسم السكن بسكون الكاف على الطعام المعدّ للساكن الدار إذ المسكن يقال فيه: سَكْن أيضاً. واقتصر عليه أكثر المفسرين ولم يذكر الراغب غيره. ويجوز أن يكون المراد من النزل هنا طعام الضيافة في الجنة. ويجوز أن يراد به مكان النزول على تقدير مضاف في قوله: {أمْ شجرة الزقوم} بتقدير: أم مكان شجرة الزقوم. وعلى الوجهين فانتصاب {نُزُلاً} على الحال من اسم الإِشارة ومتوجه الإِشارة بقوله: {ذلك} إلى ما يناسب الوجهين مما تقدم من قوله: {رزق معلومٌ فواكِه وهم مُكْرَمُونَ في جَنَّاتتِ النَّعِيم} [الصافات: 41- 43]. ويجري على الوجهين معنى معادل الاستفهام فيكون إمّا أن تُقدّر: أم منزلُ شجرة الزقوم على حدّ قوله تعالى: {أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً} [مريم: 73] فقد ذَكَر مكانين، وإما أن نقدر: أم نزل شجرة الزقوم، وعلى هذا الوجه الثاني تَكون المعادلة مشاكَلة تهكماً لأن طعام شجرة الزقوم لا يحق له أن يسمى نزلاً. وشجرة الزقوم ذكرت هنا ذِكر ما هو معهود من قبلُ لورودها معرِفة بالإِضافة ولوقوعها في مقام التفاوت بين حالي خير وشر فيناسب أن تكون الحوالة على مِثلين معروفين، فأما أن يكون اسماً جعله القرآن لشجرة في جهنم ويكون سبق ذكرها في {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم} في سورة [الواقعة: 51- 52]، وكان نزولها قبل نزول سورة الصافات. ويبين هذا ما رواه الكلبي أنه لما نزلت هذه الآية (أي آية سورة الواقعة) قال ابن الزِّبَعْرَى: أكثر الله في بيوتكم الزقوم، فإن أهل اليمن يسمّون التمر والزبد بالزقوم. فقال أبو جهل لجاريته: زقمينا فأتته بزُبد وتمر فقال: تزقموا. وعن ابن سيده: بلغنا أنه لما نزلت: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم} أي في سورة [الدخان: 43 44] لم يعرفها قريش. فقال أبو جهل: يا جارية هاتي لنا تمراً وزبداً نزدقمه، فجعلوا يأكلون ويقولون: أفبهاذا يخوفنا محمد في الآخرة ا. ه. والمناسب أن يكون قولهم هذا عندما سمعوا آية سورة الواقعة لا آية سورة الدخان وقد جاءت فيها نكرة. وإمّا أن يكون اسماً لشجر معروف هو مذموم، قيل: هو شجر من أخبث الشجر يكون بتهامة وبالبلاد المجدبة المجاورة للصحراء كريهة الرائحة صغيرة الورق مسمومة ذات لبن إذا أصاب جلد الإِنسان تورّم ومات منه في الغالب. قاله قطرب وأبو حنيفة. وتصدّي القرآن لوصفها المفصّل هنا يقتضي أنها ليست معروفة عندهم فذكرها مُجملة في سورة الواقعة فلما قالوا ما قالوا فصّل أوصافها هنا بهذه الآية وفي سورة الدخان بقوله: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل تغلِي في البطون كغلْي الحميم} [الدخان: 43- 46]. وقد سماها القرآن بهذه الإِضافة كأنها مشتقة من الزقمة بضم الزاء وسكون القاف وهو اسم الطاعون، وقال ابن دريد: لم يكن الزقوم اشتقاقاً من التزقم وهو الإِفراط في الأكل حتى يكرهه. وهو يريد الرد على من قال: إنها مشتقة من التزقم وهو البلْع على جَهد لكراهة الشيء. واستأنف وصفها بأن الله جعلها {فتنة للظالمين}، أي عذاباً مثل ما في قوله: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10]، أي عذبوهم بأخدود النار. وفسرت الفتنة أيضاً بأن خبر شجرة الزقوم كان فتنة للمشركين إذ أغراهم بالتكذيب والتهكم فيكون معنى {جَعَلْناهَا} جعلنا ذكرها وخبرها، أي لما نزلت آية سورة الواقعة، أي جعلنا ذكرها مثيراً لفتنتهم بالتكذيب والتهكم دون تفهم، وذلك مثل قوله: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} [المدثر: 31]، فإنه لما نزل قوله تعالى في وصف جهنم: {عليها تسعة عشر} [المدثر: 30] قال أبو جهل لقريش: ثَكِلتكم أمهاتُكم إن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدُّهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم (أي من خزنة النار) فقال أبو الأشد الجمحي: أنا أكفيكم سبعةَ عشر فاكْفوني أنتم اثنين فأنزل الله تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} [المدثر: 31] أي فليس الواحد منهم كواحد من الناس {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} [المدثر: 31]. واستأنف لوصفها استئنافاً ثانياً مكرراً فيه كلمة {إنَّهَا} للتهويل. ومعنى {تَخْرُجُ} تنبت كما قال تعالى: {والبلد الطيب يخرجُ نباته بإذن ربه} [الأعراف: 58]. ومن عجيب قدرة الله تعالى أن جعل من النار شجرة وهي نارية لا محالة. صور الله في النار شجرة من النار، وتقريب ذلك ما يصور في الشماريخ النارية من صور ذات ألوان كالنخيل ونحوه. وجعَل لها طلعاً، أي ثمراً، وأطلق عليه اسم الطلع على وجه الاستعارة تشبيهاً له بطلع النخلة لأن اسم الطلع خاصّ بالنخيل. قال ابن عطية: عن السدي ومجاهد قال الكفار: كيف يخبر محمد عن النار أنها تنبت الأشجار، وهي تأكلها وتذهبها، فقولهم هذا ونحوه من الفتنة لأنه يزيدهم كفراً وتكذيباً. و {رُءُوسُ الشَّياطِينِ} يجوز أن يكون مراداً بها رؤوس شياطين الجنّ جمع شيطان بالمعنى المشهور ورؤوس هذه الشياطين غير معروفة لهم، فالتشبيه بها حوالة على ما تصوّر لهم المخيّلة، وطلع شجرة الزقوم غير معروف فوُصف للناس فَظيعاً بَشِعاً، وشبهت بشاعته ببشاعة رؤوس الشياطين، وهذا التشبيه من تشبيه المعقول بالمعقول كتشبيه الإِيمان بالحياة في قوله تعالى: {لتنذر من كان حياً} [يس: 70] والمقصود منه هنا تقريب حال المشبّه فلا يمتنع كون المشبه به غير معروف ولا كون المشبه كذلك. ونظيره قول امرئ القيس: ومسنونة زرق كأنياب أغوال *** وقيل: أريد برؤوس الشياطين ثمر الأسْتن، والأسْتَن (بفتح الهمزة وسكون السين وفتح التاء) شجرة في بادية اليمن يشبه شخوص الناس ويسمى ثمره رؤوس الشياطين، وإنما سمّوه كذلك لبشاعة مرآه ثم صار معروفاً، فشبه به في الآية. وقيل: {الشياطِينِ:} جمع شيطان وهو من الحيات ما لرؤوسه أعراف، قال الراجز يشبه امرأته بحية منها: عَنْجَرِدٌ تَحلف حينَ أحلف *** كمثل شيطاننِ الحَمَاط أعْرَفُ الحماط: جمع حَمَاطة بفتح الحاء: شجر تكثر فيه الحيات، والعنجرِد بكسر الراء: المرأة السليطة. وهذه الصفات التي وصفت بها شجرة الزقوم بالغة حداً عظيماً من الذم وذلك الذم هو الذي عبّر عنه بالملعونة في قوله تعالى: {والشجرة الملعونة في القرآن} في سورة [الإِسراء: 60]، وكذلك في آية {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل تغلي في البطون كغلي الحميم} في سورة [الدخان: 43- 46]. (وقد أنذروا بأنهم آكلون منها إنذاراً مؤكداً، أي آكلون من ثمرها وهو ذلك الطلع. وضمير {منها} للشجرة جرى على الشائع من قول الناس أكلت من النخلة، أي من ثمرها. والمعنى: أنهم آكلون منها كرهاً وذلك من العذاب، وإذا كان المأكول كريهاً يزيده كراهة سوءُ منظره، كما أن المشتهَى إذا كان حسن المنظر كان الإِقبال عليه بِشَرَه لظهور الفرق بين تناول تفاحة صفراء وتناول تفاحةَ مورّدة اللون، وكذلك محسنات الشراب، ألاَ ترَى إلى كعب بن زهير كيف أطال في محسنات الماء الذي مزجت به الخمر في قوله: شُجَّت بذي شَبَم من ماء مَجْنيَة *** صاففٍ بأبطحَ أضحَى وهو مشمول تنفي الرياح القذَى عنه وأفرطه *** من صوب سارية بيضٌ يعاليل ومَلْءُ البطون كناية عن كثرة ما يأكلون منها على كراهتها. وإسناد الأكل ومَلْءِ البطون إليهم إسناد حقيقي وإن كانوا مكرهين على ذلك الأكل والملْءِ. والفاء في قوله: {فَمَالِئُونَ} فاء التفريع، وفيها معنى التعقيب، أي لا يلبثون أن تمتلئ بطونهم من سرعة الالتقام، وذلك تصوير لكراهتها فإن الطعام الكريه كالدواء إذا تناوله آكله أسرع ببلعه وأعظم لقمه لئلا يستقر طعمه على آلة الذوق. و {ثُم} في قوله: {ثُمَّ إنَّ لهم عليها لشوْباً من حميمٍ} للتراخي الرتبي لأنها عطفت جُملة، وليس للتراخي في الإِخبار معنى إلا إفادة أن ما بعد حرف التراخي أهم أو أعجب مما قبله بحيث لم يكن السامع يرقبه فهو أعلى رتبة باعتبار أنه زيادة في العذاب على الذي سبقه فوقْعه أشدّ منه، وقد أشعر بذلك قوله {عليها}، أي بعدها أي بعد أكلهم منها. والشَّوب: أصله مصدر شاب الشيءَ بالشيء إذا خلَطه به، ويطلق على الشيء المشوب به إطلاقاً للمصدر على المفعول كالخلْق على المخلوق. وكلا المعنيين محتمل هنا. وضمير {عليها} عائد إلى {شَجَرَة الزقُّومِ} بتأويل ثمرها. و(على) بمعنى (مع)، ويصح أن تكون للاستعلاء لأن الحميم يشربونه بعد الأكل فينزل عليه في الأمعاء. والحميم: القيح السائل من الدُّمَّل، وتقدم عند قوله تعالى: {لهم شراب من حميم} في سورة [الأنعام: 70]. والقول في عطف {ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم} كالقول في عطف {ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم. والمرجع: مكان الرجوع، أي المكان الذي يعود إليه الخارج منه بعد أن يفارقه. وقد يستعار للانتقال من حالة طارئة إلى حالة أصلية تشبيهاً بمغادرة المكان ثم العود إليه كقول عُمر بن الخطاب في كلامه مع هُنَيْئ صاحب الحِمَى فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نَخْل وزرع، يعني عثمان بن عفان وعبد الرحمان بنَ عوف، فإنه إنما عَنى أنهما ينتقلان من الانتفاع بالماشية إلى الانتفاع بالنخل والزرع وكذلك ينبغي أن يفسر الرجوع في الآية لأن المشركين حين يطعمون من شجرة الزقوم ويشربون الحميم لم يفارقوا الجحيم فأريد التنبيه على أن عذاب الأكل من الزقوم والشراب من الحميم زيادةٌ على عذاب الجحيم، ألاَ ترى إلى قوله: إنها شجرة تخرجُ في أصللِ الجحيمِ} فليس ثمة مغادرة للجحيم حتى يكون الرجوع حقيقة، مثله قول النبي صلى الله عليه وسلم حين رجوعه من إحدى مغازيه «رجعْنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» يريد مجاهدة النفس فإنه لم يعْننِ أنهم حين اشتغالهم بالجهاد قد تركوا مجاهدة أنفسهم وإنما عنى أنهم كانوا في جهاد زائد فصاروا إلى الجهاد السابق.
{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} تعليل لِما جازاهم الله به من العذاب وإبداء للمناسبة بينه وبين جُرمهم، فإن جرمهم كان تلقياً لما وجدوا عليه آباءهم من الشرك وشُعَبه بدون نظر ولا اختيار لما يختاره العاقل، فكان من جزائهم على ذلك أنهم يطعمون طعاماً مؤلماً ويسقَون شراباً قذِراً بدون اختيار كما تلَقوا دين آبائهم تقليداً واعتباطاً. فموقع (إنَّ) موقع فاء السببية، ومعناها معنى لام التعليل، وهي لذلك مفيدة ربط الجملة بالتي قبلها كما تربطها الفاء ولام التعليل كما تقدم غير مرة. والمراد: المشركون من أهل مكة الذين قالوا: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} [الزخرف: 22]. وفي قوله: {ألْفَوا ءَابَآءَهُم ضَالِينَ} إيماء إلى أن ضلالهم لا يخفى عن الناظر فيه لو تُركوا على الفطرة العقلية ولم يغشَوها بغشاوة العناد. والفاء الداخلة على جملة {فهم على آثارِهِم يُهرعُون} فاء العطف للتفريع والتسبب، أي متفرّع على إلفائهم آباءهم ضالّين أنْ اقتفوا آثارهم تقليداً بلا تأمل، وهذا ذَمّ لهم. والآثار: ما تتركه خُطَى الماشِين من مَوطئ الأقدام فيَعلم السائر بعدَهم أن مواقعها مسلوكة موصلة إلى معمور، فمعنى {على الاستعلاء التقريبي، وهو معنى المعية لأنهم يسيرون معها ولا يلزم أن يكونوا مُعْتَلِين عليها. و يُهْرَعُونَ} بفتح الراء مبنيّاً للمجهول مضارع: أهرعه، إذا جعله هارعاً، أي حمله على الهرع وهو الإِسراع المفرط في السير، عبر به عن المتابعة دون تأمل، فشبه قبولُ الاعتقاد بدون تأمل بمتابعة السائر متابعة سريعة لقصد الالتحاق به. وأسند إلى المجهول للدلالة على أن ذلك ناشئ عن تلقين زعمائهم وتعاليم المضلّلين، فكأنهم مدفوعون إلى الهرع في آثار آبائهم فيحصل من قوله: {يُهْرَعُونَ} تشبيه حال الكفرة بحال من يُزْجَى ويدفع إلى السير وهو لا يعلم إلى أين يُسار به.
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)} عُقّب وصفُ حال المشركين في الآخرة وما علّل به من أنهم ألْفَوْا آباءهم ضالّين فاتبعوا آباءهم بتنظيرهم بمن سلفوا من الضالّين وتذكيراً للرسول صلى الله عليه وسلم بذلك مسلاة له على ما يلاقيه من تكذيبهم، واستقصاء لهم في العبرة والموعظة بما حلّ بالأمم قبلهم، فهَذه الجملة معطوفة على مضمون الجملة التي قبلها إكمالاً للتعليل، أي اتبعوا آثار آبائهم واقتدوا بالأمم أشياعهم. ووصف الذين ضلّوا قبلهم بأنهم {أكْثَرُ الأوَّلِينَ} لئلا يَغترّ ضعفاء العقول بكثرة المشركين ولا يعْتزّوا بها، ليعلموا أن كثرة العدد لا تبرّر ضلال الضالّين ولا خطأ المخطئين، وأن الهدى والضلال ليسا من آثار العدد كثرة وقلة ولكنهما حقيقتان ثابتتان مستقلتان فإذا عرضت لإِحداهما كثرة أو قلة فلا تكونان فتنة لقصار الأنظار وضعفاء التفكير. قال تعالى: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} [المائدة: 100]. وأكملت العلة والتسلية والعبرة بقوله: {ولقد أرسلنا فيهم مُنذرين} أي رسلاً ينذرونهم، أي يحذرونهم ما سَيحل بهم مثل ما أرسلناك إلى هؤلاء. وخصّ المرسلين بوصف المنذرين لمناسبة حال المتحدث عنهم وأمثالهم. وضمير {فِيهِم} راجع إلى {الأوَّلِينَ،} أي أرسلنا في الأول منذِرين فاهتدى قليل وضلّ أكثرهم. وفرّع على هذا التوجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ترشيحاً لما في الكلام السابق من جانب التسلية والتثبيت مع التعريض بالكلام لتهديد المشركين بذلك، ويجوز أن يكون الخطاب لكل من يسمع القرآن فشمل النبي صلى الله عليه وسلم والأمرُ بالنظر مستعمل في التعجيب والتهويل فإن أريد بالعاقبة عاقبتهم في الدنيا فالنظر بصريّ، وإن أريد عاقبتهم في الآخرة كما يقتضيه السياق فالنظر قلبي، ولا مانع من إرادة الأمرين واستعمال المشترك في المعنيين. والتعريف في قوله: {المُنذَرِينَ} تعريف العهد، وهم المنذَرون الذين أرسل إليهم المنذِرون، أي فهم الضالّون المعبر عنهم بأنهم {أكْثَرُ الأوَّلين.} فالمعنى: فانظر كيف كان عاقبة الضالّين الذين أنذرناهم فلم ينتذروا كما فعل هؤلاء الذين ألْفَوْا آباءهم ضالّين فاتبعوهم، فقد تحقق اشتراك هؤلاء وأولئك في الضلال، فلا جرم أن تكون عاقبة هؤلاء كعاقبة أولئك. وفعل النظر معلق عن معموله بالاستفهام، والاستفهام تعجيبي للتفظيع. واستثني {عِبَادَ الله المُخلصين} من {الأوَّلِينَ} استثناءً متّصلاً فإن عباد الله المخلصين كانوا من جملة المنذَرين فصدّقوا المنذِرين ولم يشاركوا المنذَرين في عاقبتهم المنظور فيها وهي عاقبة السوء. وتقدم اختلاف القراء في فتح اللام وكسرها من قوله: {المخلصين} عند قوله تعالى: {وما تجزون إلا ما كنتم تعملون إلا عباد الله المخلصين} [الصافات: 39- 40]
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82)} أتبع التذكير والتسلية من جانب النظر في آثار ما حلّ بالأمم المرسَل إليهم، وما أخبر عنه من عاقبتهم في الآخرَة، بتذكير وتسلية من جانب الإِخبار عن الرسل الذين كذّبهم قومهم وآذَوهم وكيف انتصر الله لهم ليزيد رسول صلى الله عليه وسلم تثبيتاً ويُلْقِم المشركين تبْكيتاً. وذكر في هذه السورة ست قصص من قصص الرسل مع أقوامهم لأن في كل قصة منها خاصيةً لها شبَهٌ بحال الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه وبحاله الأكمل في دعوته، ففي القِصص كلّها عبرة وأسوة وتحذير كما سيأتي تفصيله عند كل قصة منها، ويجمعها كلّها مقاومة الشرك ومقاومة أهلها. واختير هؤلاء الرسل الستة: لأن نوحاً القدْوة الأولى، وإبراهيم هو رسول الملة الحنيفية التي هي نواة الشجرة الطيبة شجرة الإِسلام، وموسى لشبه شريعته بالشريعة الإِسلامية في التفصيل والجمع بين الدين والسلطان، فهؤلاء الرسل الثلاثة أصول. ثم ذكر ثلاثة رسل تفرّعوا عنهم وثلاثتهم على ملّة رسل من قبلهم. فأما لوط فهو على ملة إبراهيم، وأما إلياس ويونس فعلى ملة موسى. وابتدى بقصة نوح مع قومه فإنه أول رسول بعثه الله إلى الناس وهو الأسوة الأولى والقدوة المثلى. وابتداء القصة بذكر نداء نوح ربه موعظة للمشركين ليحذروا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه تعالى بالنصر عليهم كما دعا نوح على قومه وهذا النداء هو المحكي في قوله: {قال رب انصرني بما كذبون} [المؤمنون: 26]، وقوله: {قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً} الآيات من سورة [نوح: 21]. والفاء في قوله: {فلَنِعْمَ المُجِيبونَ} تفريع على {نادَانَا،} أي نادانا فأجبناه، فحذف المفرّع لدلالة {فلنعم المجيبون} عليه لتضمنه معنى فأجبناه جواب من يقال فيه: نعم المجيب. والمخصوص بالمدح محذوف، أي فلَنِعْم المجيبون نحن. وضمير المتكلم المشارَك مستعمل في التعظيم كما هو معلوم. وتأكيد الخبر وتأكيد ما فرع عليه بلام القسم لتحقيق الأمرين تحذيراً للمشركين بعد تنزيلهم منزلة من ينكر أن نوحاً دعا فاستجيب له. والتنجية: الإِنجاء وهو جعل الغير ناجياً. والنجاة: الخلاص من ضر واقع. وأطلقت هنا على السلامة من ذلك قبل الوقوع فيه لأنه لما حصلت سلامته في حين إحاطة الضر بقومه نُزلت سلامته منه مع قربه منه بمنزلة الخلاص منه بعد الوقوع فيه تنزيلاً لمقاربة وقوع الفعل منزلة وقوعه، وهذا إطلاق كثير للفظ النجاة بحيث يصح أن يقال: النجاة خلاص من ضر واقع أو متوقع. والمراد بأهله: عائلته إلاّ مَن حق عليه القول منهم، وكذلك المؤمنون من قومه، قال تعالى: {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل} [هود: 40]. فالاقتصار على أهله هنا لقلة من آمن به من غيرهم، أو أريد بالأهل أهل دينه كقوله تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتّبعوه} [آل عمران: 68]. وأشعر قوله: {ونجَّيناهُ وأهلَهُ} أن استجابة دعاء نوح كانت بأن أهلك قومه. و {الكرب}: الحزن الشديد والغمّ. ووصفه ب {العظيم} لإِفادة أنه عظيم في نوعه فهو غمّ على غم. والمعنيّ به الطوفان، وهو كرب عظيم على الذين وقعوا فيه، فإنجاء نوح منه هو سلامته من الوقوع فيه كما علمت لأنه هول في المنظر، وخوف في العاقبة والواقع فيه موقِن بالهلاك. ولا يزال الخوف يزداد به حتى يغمره الماء ثم لا يزال في آلام من ضيق النفَس ورعدة القَرّ والخوف وتحقق الهلاك حتى يغرق في الماء. وإنجاء الله إياه نعمة عليه، وإنجاء أهله نعمة أخرى، وإهلاك ظالميه نعمة كبرى، وجُعل عمران الأرض بذريته نعمة دائمة لأنهم يدعون له ويُذكر بينهم مصالح أعماله وذلك مما يرحمه الله لأجله، وستأتي نعم أخرى تبلغ اثنتي عشرة. وضمير الفصل في قوله: {هُمُ الباقِينَ} للحصر، أي لم يبق أحد من الناس إلا من نجّاه الله مع نوح في السفينة من ذريته، ثُم مَن تناسل منهم فلم يبق من أبناء آدم غيرُ ذرية نوح فجميع الأمم من ذرية أولاد نوح الثلاثة. وظاهر هذا أن من آمن مع نوح من غير أبنائه لم يكن لهم نسل. قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا وُلده ونساءه. وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة هود {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلَك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل} [هود: 40]، وهذا جار على أن الطوفان قد عمّ الأرض كلها واستأصل جميع البشر إلا مَن حملهم نوح في السفينة وقد تقدم خبره في سورة هود. وعمومُ الطوفان هو مقتضى ظواهر الكتاب والسنة، ومن قالوا إن الطوفان لم يعمّ الأرض فإنما أقدموا على إنكاره من جهة قصر المدة التي حددت بها كتب الإِسرائيليين، وليس يلزم الاطمئنان لها في ضبط عُمر الأرض وأَحداثها وذلك ليس من القواطع، ويكون القصر إضافياً أي لم يبق من قومه الذين أرسل إليهم. وقد يقال: نسلّم أن الطوفان لم يعمّ الأرض ولكنه عم البشر لأنهم كانوا منحصرين في البلاد التي أصابها الطوفان ولئن كانت أدلة عموم الطوفان غير قطعية فإن مستندات الذين أنكروه غير ناهضة فلا تُترك ظواهر الأخبار لأجلها. وزاد الله في عداد كرامة نوح عليه السلام قوله: {وتَرَكنا عليه في الآخِرِينَ}، فتلك نعمة خامسة. والتَرك: حقيقته تخليف شيء والتخلي عنه. وهو هنا مراد به الدوام على وجه المجاز المرسل أو الاستعارة، لأن شأن النعم في الدنيا أنها متاع زائل بعدُ، طالَ مُكثها أو قصر، فكأنَّ زوالَها استرجاعٌ من معطيها كما جاء في الحديث: «لله ما أخذ وله ما أعطى» فشرَف الله نوحاً بأن أبقى نعمهُ عليه في أمم بعده. وظاهر {الآخِرِينَ} أنها باقية في جميع الأمم إلى انقضاء العالم، وقرينة المجاز تعليق {عَلَيْهِ} ب {تركنا} لأنه يناسب الإِبقاء، يقال: أبقى على كذا، أي حافظ عليه ليبقى ولا يندثر، وعلى هذا لا يكون ل {تركنا} مفعول، وبعضهم قدّر له مفعولاً يدل عليه المقام، أي تركنا ثناء عليه، فيجوز أن يراد بهذا الإِبقاء تعميره ألف سنة، فهو إبقاء أقصى ما يمكن إبقاء الحيّ إليه فوق ما هو متعارف. ويجوز أن يراد بقاء حسن ذكره بين الأمم كما قال إبراهيم: {واجعل لي لسانَ صدْققٍ في الآخرين} [الشعراء: 84] فكان نوح مذكوراً بمحامد الخصال حتى قيل: لا تجهل أمة من أمم الأرض نوحَاً وفضله وتمجيده وإن اختلفت الأسماء التي يسمونه بها باختلاف لغاتهم. فجاء في «سفر التكوين» الإِصحاح التاسع: كان نوح رجلاً بارّاً كاملاً في أجياله وسار نوح مع الله. وورد ذكره قبل الإِسلام في قول النابغة: فألفيتَ الأمانة لم تخنا *** كذلكَ كان نوح لا يخون وذكره لبني إسرائيل في معرض الاقتداء به في قوله: {ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً} [الإسراء: 3]. وذكر ابن خلدون: أن بعضهم يزعم أن نوحاً هو (أفريدون) ملك بلاد الفرس، وبعضهم يزعم أن نوحاً هو (أوشهنك) ملك الفرس الذي كان بعد (كيومرث) بمائتي سنة وهو يوافق أن نوحاً كان بعد آدم وهو كيومرث بمائتي سنة حسب كتب الإِسرائيلين. على أن كيومرث يقال: إنه آدم كما تقدم في سورة البقرة. ومتعلق {عَلَيْهِ} من قوله: {وتركنا عليه} لم يَحُم أحد من المفسرين حوله فيما اطلعت، والوجه أن يتعلق {عليه} بفعل {تركنا} بتضمين هذا الفعل معنى (أنعمنا) فكان مقتضى الظاهر أن يعدّى هذا الفعل باللام، فلما ضمّن معنى أنعمنا أفاد بمادته معنى الإِبقاء له، أي إعطاء شيء من الفضائل المدخرة التي يشبه إعطاؤها ترك أحد متاعاً نفيساً لمن يُخليه هو له ويخلفه فيه. وأفاد بتعليق حرف (على) به أن هذا الترك من قبيل الإِنعام والتفضيل، وكذلك شأن التضمين أن يفيد المضمَّن مفاد كلمتين فهو من ألطف الإِيجاز. ثم إن مفعول {تركنا} لما كان محذوفاً وكان فعل (أنعمنا) الذي ضُمِّنه فعل {تركنا} مما يحتاج إلى متعلق معنى المفعول، كان محذوفاً أيضاً مع عامله فكان التقدير: وتركنا له ثناء وأنعمنا عليه، فحصل في قوله: {تركنا عليه} حذفُ خمس كلمات وهو إيجاز بديع. ولذلك قدر جمهور المتقدمين من المفسرين {وتَرَكنا} ثناء حسناً عليه. وجملة {سَلامٌ على نُوححٍ في العالَمِينَ} إنشاء ثناء الله على نوح وتحية له ومعناه لازم التحية وهو الرضى والتقريب، وهو نعمة سادسة. وتنوين {سَلامٌ} للتعظيم ولذلك شاع الابتداء بالنكرة لأنها كالموصوف. والمراد بالعالمين: الأمم والقرون وهو كناية عن دوام السلام عليه كقوله تعالى: {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً} [مريم: 15] في حق عيسى عليه السلام وكقوله: {سلام على آلْ يَاسينَ} [الصافات: 130] {سلام على إبراهيم} [الصافات: 109]. وفي {العالَمِينَ} حال فهو ظرف مستقر أو خبر ثان عن {سَلامٌ. وذهب الكسائي والفراء والمبرد والزمخشري إلى أن قوله: سَلامٌ على نوح في العالمين} في محلّ مفعول {تركنا}، أي تركنا عليه هذه الكلمة وهي {سلامٌ على نوححٍ في العالَمِينَ} وهو من الكلام الذي قصدت حكايته كما تقول قرأت {سورة أنزلناها وفرضناها} [النور: 1]، أي جعلنا الناس يسلمون عليه في جميع الأجيال، فما ذكروه إلا قالوا: عليه السلام. ومثل ذلك قالوا في نظائرها في هذه الآيات المتعاقبة. وزيد في سَلام نوح في هذه السورة وصْفُه بأنه في العالمين دون السلام على غيره في قصة إبراهيم وموسى وهارون وإلياس للإِشارة إلى أن التنويه بنوح كان سائراً في جميع الأمم لأنهم كلهم ينتمون إليه ويذكرونه ذكر صدق كما قدمناه آنفاً. وجملة {إنَّا كذلك نجزي المُحسنين} تذييل لما سبق من كرامة الله نوحاً. و(إنّ) تفيد تعليلاً لمجازاة الله نوحاً بما عده من النعم بأن ذلك لأنه كان محسناً، أي متخلقاً بالإِحسان وهو الإِيمان الخالص المفسّر في قول النبي صلى الله عليه وسلم «الإِحسانُ أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وأي دليل على إحسانه أجلى من مصابرته في الدعوة إلى التوحيد والتقوى وما ناله من الأذى من قومه طول مدة دعوته. والمعنى: إنا مثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين. وفي هذا تنويه بنوح عليه السلام بأن جزاءه كان هو المثال والإِمامَ لجزاء المحسنين على مراتب إحسانهم وتفاوت تقَارُبِها من إحسان نوح عليه السلام وقوته في تبليغ الدعوة. فهو أول من أوذي في الله فسَنَّ الجزاءَ لمن أوذي في الله، وكان على قَالَب جزائه، فلعله أن يكون له كفل من كل جزاء يُجزاه أحد على صبره إذا أوذي في الله، فثبت لنوح بهذا وصف الإِحسان، وهو النعمة السابعة. وثبت له أنه مَثَل للمحسنين في جزائهم على إحسانهم، وهي النعمة الثامنة. وجملة {إنَّه من عِبادنَا المُؤمنين} تعليل لاستحقاقه المجازاة الموصوفة بقوله: {كذلك نَجزي المحسنين} فاختلف معلول هذه العلة ومعلول العلة التي قبلها. وأفاد وصفه ب {إنَّه من عِبَادِنَا} أنه ممن استحق هذا الوصف، وقد علمت غير مرة أن وصف (عبد) إذا أضيف إلى ضمير الجلالة أشعر بالتقريب ورفع الدرجة، اقتصر على وصف العباد بالمؤمنين تنويهاً بشأن الإِيمان ليزداد الذين آمنوا إيماناً ويقلع المشركون عن الشرك. وهذه نعمة تاسعة. وأقحم معها من {عبادنا} لتشريفه بتلك الإضافة على نحو ما تقدم آنفاً في قوله تعالى: {إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم} [الصافات: 40- 41] وهذه نعمة عاشرة، وفي ذلك تنبيه على عظيم قدر الإِيمان. وفي هذه القصة عبرة للمشركين بما حلّ بقوم نوح وتسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وجعل نوح قدوة له، وإيماء إلى أن الله ينصره كما نصر نوحاً على قومه وينجّيه من أذاهم وتنويه بشأن المؤمنين. و {ثم} التي في قوله: {ثم أغرقنا الآخرينَ} للترتيب والتراخي الرتبيين لأن بعض ما ذكر قبلها في الكلام هو مما حصل بعد مضمون جملتها في نفس الأمر كما هو بيّن، ومعنى التراخي الرتبي هنا أن إغراق الذين كذّبوه مع نجاته ونجاة أهله، أعظم رتبة في الانتصار له والدلالة على وجاهته عند الله تعالى وعلى عظيم قدرة الله تعالى ولطفه. ومعنى {الآخرِينَ} مَن عَداهُ وعدا أهله، أي بقية قومه، وفي التعبير عنهم بالآخرين ضرب من الاحتقار. ومما في الحديث أنه جاءه رجل فقال: «إن الآخر قد زنى» يعني نفسه على رواية الآخر بمدّ الهمزة وهي إحدى روايتين في الحديث. وتقدم ذكر نوح وقصته عند قوله تعالى: {إن اللَّه اصطفى آدم ونوحاً} في [آل عمران: 33]، وفي الأعراف، وفي سورة هود، وذكرُ سفينته في أول سورة العنكبوت.
{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)} تخلص إلى حكاية موقف إبراهيم عليه السلام من قومه في دعوتهم إلى التوحيد وما لاقاه منهم وكيف أيده الله ونجّاه منهم، وقع هذا التخلص إليه بوصفه من شيعة نوح ليفيد بهذا الأسلوب الواحِد تأكيد الثناء على نوح وابتداءَ الثناء على إبراهيم وتخليد منقبة لنوح إن كان إبراهيم الرسول العظيم من شيعته وناهيك به. وكذلك جَمع محامد لإِبراهيم في كلمة كونه من شيعة نوح المقتضي مشاركته له في صفاته كما سيأتي، وهذا كقوله تعالى: {ذرية من حملنا مع نوح} [الإسراء: 3]. والشيعة: اسم لمن يناصر الرجل وأتباعِه ويتعصب له فيقع لفظ شيعة على الواحد والجمع. وقد يجمع على شِيع وأشياع إذا أريد: جماعات كلُّ جماعة هي شيعة لأحد. وقد تقدم عند قوله تعالى: {ولقد أرسلنا من قبلك في شِيَع الأولين} في سورة [الحجر: 10]، وعند قوله تعالى: {وجعل أهلها شيعاً} في سورة [القصص: 4]. وكان إبراهيم من ذرية نوح وكان دينه موافقاً لدين نوح في أصله وهو نبذ الشرك. وجعل إبراهيم من شيعة نوح لأن نوحاً قد جاءت رسل على دينه قبل إبراهيم منهم هود وصالح فقد كانا قبل إبراهيم لأن القرآن ذكرهما غير مرة عقب ذكر نوح وقبل ذكر لوط معاصر إبراهيم. ولقول هود لقومه: {واذكروا إذ جعلكم خلفاءَ من بعد قوم نوح} [الأعراف: 69]، ولقول صالح لقومه: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد} [الأعراف: 74]، وقول شعيب لقومه: {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد} [هود: 89]. فجعل قوم لوط أقرب زمناً لقومه دون قوم هود وقوم صالح. وكان لوط معاصر إبراهيم فهؤلاء كلهم شيعة لنوح وإبراهيم من تلك الشيعة وهذه نعمة حادية عشرة. وتوكيد الخبر ب {إنّ} ولام الابتداء للردّ على المشركين لأنهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم وهذا كقوله تعالى: {وما كان من المشركين} [البقرة: 135]. و {إذ} ظرف للماضي وهو متعلق بالكون المقدَّر للجار والمجرور الواقعين خبراً عن {إنَّ} في قوله: {وإنَّ من شيعته لإبراهيم،} أو متعلق بلفظ شيعة لما فيه من معنى المشايعة والمتابعة، أي كان من شيعته حين جاء ربه بقلب سليم كما جاء نوح، فذلك وقتُ كونه من شيعته، أي لأن نوحاً جاء ربه بقلب سليم. وفي {إذْ} معنى التعليل لكونه من شيعته فإن معنى التعليل كثير العروض ل {إذْ} كقوله تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} [الزخرف: 39]. وهذه نعمة على نوح وهي ثانية عشرة. والباء في {بِقَلببٍ سليمٍ} للمصاحبة، أي جاء معه قلب صفته السلامة فيؤول إلى معنى: إذ جاء ربه بسلامة قلب، وإنما ذكر القلب ابتداء ثم وصف ب {سليمٍ} لما في ذكر القلب من إحضار حقيقة ذلك القلب النزيه، ولذلك أوثر تنكير «قلب» دون تعريف. و {سَلِيمٍ:} صفة مشبهة مشتقة من السلامة وهي الخلاص من العلل والأدواء لأنه لما ذكر القلب ظهر أن السلامة سلامته مما تصاب به القلوب من أدوائها فلا جائز أن تعني الأدواء الجسدية لأنهم ما كانوا يريدون بالقلب إلا مقرّ الإِدراك والأخلاق. فتعين أن المراد: صاحب القلب مع نفسه بمثل طاعة الهوى والعجب والغرور، ومع الناس بمثل الكبر والحقد والحسد والرياء والاستخفاف. وأطلق المجيء على معاملته به في نفسه بما يرضي ربه على وجه التمثيل بحال من يجيء أحداً ملقياً إليه مَا طلبه من سلاح أو تحف أو ألطاف فإن الله أمره بتزكِية نفسه فامتثل فأشبه حال من دعاه فجاءه. وهذا نظير قوله تعالى: {أجيبوا داعي الله} [الأحقاف: 31]. وقد جمع قوله: {بِقَلْببٍ سليمٍ} جوامع كمال النفس وهي مصدر محامد الأعمال. وفي الحديث: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ". وقد حكي عن إبراهيم قوله: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 88- 89]، فكان عماد ملة إبراهيم هو المتفرّع عن قوله: {بقلب سليم،} وذلك جُماع مكارم الأخلاق ولذلك وصف إبراهيم بقوله تعالى: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب} [هود: 75]، فكان منزهاً عن كل خلق ذميم واعتقاد باطل. ثم إن مكارم الأخلاق قابلة للازدياد فكان حظ إبراهيم منها حظاً كاملاً لعله أكمل من حظ نوح بناء على أن إبراهيم أفضل الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم وادخر الله منتهى كمالها لِرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فلذلك قال: " إنما بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق "، ولذلك أيضاً وصفت ملة إبراهيم بالحنيفية ووصف الإِسلام بزيادة ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم " بُعِثت بالحنيفية السمحة " وتعليق كونه من شيعة نوح بهذا الحِين المضاف إلى تلك الحالة كناية عن وصف نوح بسلامة القلب أيضاً يحصل من قوله: {وإنَّ من شيعتِه لإبراهيم} إثبات مثل صفات نوح لإِبراهيم ومن قوله: {إذ جَاءَ ربَّهُ بقلْببٍ سليمٍ} إثبات صفة مثل صفة إبراهيم لنوح على طريق الكناية في الإثباتين، إلا أن ذلك أثبت لإِبراهيم بالصريح ويثبت لنوح باللزوم فيكون أضعف فيه من إبراهيم. و {إذ قال لأبيهِ} بدل من {من جاء ربه بقلب سليم} بدلَ اشتمال فإن قوله هذا لما نشأ عن امتلاء قلبه بالتوحيد والغضب لله على المشركين كان كالشيء المشتمل عليه قلبه السليم فصدر عنه. و {ماذا تعبدون} استفهام إنكاري على أن يعبدوا ما يعبدونه ولذلك أتبعه باستفهام آخر إنكاري وهو {أئِفكاً ءَالهَةً دونَ الله تريدون.} وهذا الذي اقتضى الإِتيان باسم الإِشارة بعد «ما» الاستفهامية الذي هو مُشرَب معنى الموصول المشار إليه، فاقتضى أن ما يعبدونه مشاهد لإِبراهيم فانصرف الاستفهام بذلك إلى معنىً دون الحقيقي وهو معنى الإِنكار، بخلاف قوله: {إذْ قالَ لأبيهِ وقومهِ ماذا تعبدون} في سورة [الشعراء: 70] فإنه استفهام على معبوداتهم ولذلك أجابوا عنه {قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين} [الشعراء: 71] وإنما أراد بالاستفهام هنالك التمهيد إلى المحاجّة فصوره في صورة الاستفهام لسماع جوابهم فينتقلَ إلى إبطاله، كما هو ظاهر من ترتيب حجاجه هنالك، فذلك حكاية لقول إبراهيم في ابتداء دعوته قومه، وأما ما هنا فحكاية لبعض أقواله في إعادة الدعوة وتأكيدها. وجملة {أئِفكاً ءَالهة دون الله تريدون} بيان لجملة {ماذا تعبدون} بين به مصبّ الإِنكار في قوله: {ماذا تعبدون} وإيضاحَه، أي كيف تريدون آلهة إفكاً. وإرادة الشيء: ابتغاؤه والعزم على حصوله، وحَقّ فعلها أن يتعدى إلى المعاني قال ابن الدمينة: تريدين قَتلي قد ظَفِرتتِ بذلك *** فإذا عدي إلى الذوات كان على معنى يتعلق بتلك الذوات كقول عمرو بن شاس الأسدي: أرادتْ عِراراً بالهوان ومن يُرِد *** عِراراً لعمري بالهوان فقد ظَلَم فلذلك كانت تعدية فعل {تُريدونَ} إلى {ءَالهة} على معنى: تريدونها بالعبادة أو بالتأليه، فكان معنى {ءَالهة} دليلاً على جانب إرادتها. فانتصب {ءَالهةً} على المفعول به وقدم المفعول على الفعل للاهتمام به ولأن فيه دليلاً على جهة تجاوز معنى الفعل للمفعول. وانتصب {إفكاً} على الحال من ضمير {تُريدونَ} أي آفكين. والإِفك: الكذب. ويجوز أن يكون حالاً من آلهة، أي آلهة مكذوبة، أي مكذوب تأليهها. والوصف بالمصدر صالح لاعتبار معنى الفاعل أو معنى المفعول. وقدمت الحال على صاحبها للاهتمام بالتعجيل بالتعبير عن كذبهم وضلالهم. وقوله: {دُونَ الله} أي خلاف الله وغيره، وهذا صالح لاعتبار قومه عبدة أوثان غير معترفين بإله غير أصنامهم، ولاعتبارهم مشركين مع الله آلهة أخرى مثل المشركين من العرب لأن العرب بقيت فيهم أثارة من الحنيفية فلم ينسوا وصف الله بالإلهية وكان قوم إبراهيم وهم الكلدان يعبدون الكواكب نظير ما كان عَليه اليونان والقبط. وفرع على استفهام الإِنكار استفهام آخر وهو قوله: {فما ظنكم برب العالمين} وهو استفهام أريد به الإِنكار والتوقيف على الخطأ، وأريد بالظن الاعتقاد الخطأ. وسمي ظناً لأنه غير مطابق للواقع ولم يسمه علماً لأن العلم لا يطلق إلا على الاعتقاد المطابق للواقع ولذلك عرفوه بأنه: «صفة توجِب تمييزاً لا يحتمل النقيض» ولا ينتفي احتمال النقيض إلا متى كان موافقاً للواقع. وكثر إطلاق الظن على التصديق المخطئ والجهل المركب كما في قوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون} في سورة [الأنعام: 116]. وقوله: {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً} [يونس: 36]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " والمعنى: أن اعتقادكم في جانب رب العالمين جهل منكَر. وفعل الظن إذا عدّي بالباء أشعر غالباً بظن صادق قال تعالى: {وتظنون بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] وقال: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم} [فصلت: 23]. ومنه إطلاق الظنين على المتهم فإن أصله: ظنين بِه، فحذفت الباء ووصل الوصف، وذلك أنه إذا عدي بالباء فالأكثر حذف مفعوله وكانت الباء للإِلصاق المجازي، أي ظن ظناً ملصقاً بالله، أي مدّعى تعلقه بالله وإنما يناسب ذلك ما ليس لائقاً بالله. وتقدمت الإِشارة إليه عند قوله تعالى: {وتظنون بالله الظنونا} في سورة [الأحزاب: 10]. والمعنى: فما ظنكم السيّئ بالله، ولما كان الظن من أفعال القلب فتعديته إلى اسم الذات دون إتباع الاسم بوصف متعينة لتقدير وصف مناسب. وقد حذف المتعلق هنا لقصد التوسع في تقدير المحذوف بكل احتمال مناسب تكثيراً للمعاني فيجوز أن تعتبر من ذاتتِ ربّ العالمين أوصافُه. ويجوز أن يعتبر منها الكنهُ والحقيقة، فاعتبار الوصف على وجهين: أحدهما: المعنى المشتق منه الرب وهو الربوبية وهي تبليغ الشيء إلى كماله تدريجاً ورفقاً فإن المخلوق محتاج إلى البقاء والإِمداد وذلك يوجب أن يَشكر المُمَدّ فلا يصد عن عبادة ربه، فيكون التقدير: فما ظنكم أن له شركاء وهو المنفرد باستحقاق الشكر المُتَمثل في العبادة لأنه الذي أمدكم بإنعامه. وثانيهما: أن يعتبر فيه معنى المالكية وهي أحد معنيي الربّ وهو مستلزم لمعنى القهر والقدرة على المملوك، فيكون التقدير: فما ظنكم ماذا يفعل بكم من عقاب على كفرانه وهو مالِككم ومالك العالمين. وأما جواز اعتبار حقيقة رب العالمين وكنهه. فالتقدير فيه: فما ظنكم بكنهِ الربوبية فإنكم جاهلون الصفات التي تقتضيها وفي مقدمتها الوحدانية.
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} مفرع على جملة {إذ قال لأبيه وقومه} [الصافات: 85] تفريع قصص بعطف بعضها على بعض. والمقصود من هذه الجمل المتعاطفة بالفاءات هو الإِفضاء إلى قوله {فَراغَ إلى آلهتهم} وأما ما قبلها فتمهيد لها وبيان كيفية تمكنه من أصنامهم وكسرها ليظهر لعبدتها عجزها. وقال ابن كثير في «تفسيره» «قال قتادة: والعرب تقول لمن تفكر: نظر في النجوم، يعني قتادة: أنه نظر إلى السماء متفكراً فيما يُلهيهم به» ا ه. وفي «تفسير القرطبي» عن الخليل والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في شيء يدبره: نظر في النجوم، أي أنه نظر في النجوم، مما جرى مجرى المثل في التعبير عن التفكير لأن المتفكر يرفع بصره إلى السماء لئلا يشتغل بالمرئيات فيخلو بفكره للتدبر فلا يكون المراد أنه نظر في النجوم وهي طالعة ليلاً بل المراد أنه نظر للسماء التي هي قرار النجوم وذكر النجوم جرى على المعروف من كلامهم. وجنح الحسن إلى تأويل معنى النجوم بالمصدر أنه نظر فيما نجم له من الرأي، يعني أن النجوم مصدر نجَم بمعنى ظهر. وعن ثعلب: نظر هنا تفكر فيما نجم من كلامهم لما سألوه أن يخرج معهم إلى عيدهم ليدبر حجة. والمعنى: ففكر في حيلة يخلو له بها بدّ أصنامهم فقال: {إني سقيمٌ} ليلزم مكانه ويفارقوه فلا يريهم بقاؤه حول بدّهم ثم يتمكن من إبطال معبوداتهم بالفعل. والوجه: أن التعقيب الذي أفادته الفاء من قوله: {فنظَرَ} تعقيب عرفي، أي لكل شيء نحسبه فيفيد كلاماً مطوياً يشير إلى قصة إبراهيم التي قال فيها: {إني سقيم} والتي تفرع عليها قوله تعالى: {فراغ إلى أهله} [الذاريات: 26] الخ. وتقييد النظرة بصيغة المرة في قوله: {نظرةً} إيماء إلى أن الله ألهمه المكيدة وأرشده إلى الحجة كما قال تعالى: {ولقد آتينا إبراهيم رشده} [الأنبياء: 51]. وقوله: {إني سقيمٌ} عذر انتحله ليتركوه فيخلو ببيت الأصنام ليخلص إليها عن كثب فلا يجد من يدفعه عن الإيقاع بها. وليس في القرآن ولا في السنة بيان لهذا لأنه غني عن البيان. وذكر المفسرون أنه اعتذر عن خروجه مع قومه من المدينة في يوم عيد يخرجون فيه فزعم أنه مريض لا يستطيع الخروج فافترض إبراهيم خروجهم ليخلو ببدّ الأصنام وهو الملائم لقوله: {فتولوا عنه مُدبرينَ. والسقيم: صفة مشبهة وهو المريض كما تقدم في قوله: {بقلبٍ سليمٍ} [الصافات: 84]. يقال: سَقِم بوزن مرِض، ومصدره السَّقم بالتحريك، فيقال: سقام وسقم بوزن قُفْل. والتولي: الإِعراض والمفارقة. لم ينطق إبراهيم فإن النجوم دلته على أنه سقيم ولكنه لما جعل قوله: {إني سقيمٌ} مقارناً لنظره في النجوم أوهم قومه أنه عرف ذلك من دلالة النجوم حسب أوهامهم. و {مُدبرينَ} حال، أي ولَّوه أدبارهم، أي: ظهورهم. والمعنى: ذهبوا وخلفوه وراء ظهورهم بحيث لا ينظرونه. وقد قيل: إن {مُدْبرينَ} حال مؤكدة وهو من التوكيد الملازم لفعل التولي غالباً لدفع توهّم أنه تولّي مخالفة وكراهة دون انتقال. وما وقع في التفاسير في معنى نظره في النجوم وفي تعيين سقمه المزعوم كلام لا يمتع بين موازين المفهوم، وليس في الآية ما يدل على أن للنجوم دلالة على حدوث شيء من حوادث الأمم ولا الأشخاص ومن يزعم ذلك فقد ضلّ ديناً، واختل نظراً وتخميناً. وقد دوّنوا كذباً كثِيراً في ذلك وسموه علم أحكام الفلك أو النجوم. وقد ظهر من نظم الآية أن قوله: {إني سقيمٌ} لم يكن مرضاً ولذلك جاء الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاثَ كَذَبات اثنتين منهن في ذات الله عزّ وجلّ " قوله: {إني سقيم،} وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} [الأنبياء: 63]، وبينَا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فسأله عن سارة فقال: «هي أختي» الحديث، فورد عليه إشكال من نسبة الكذب إلى نبيء. ودفع الإِشكال: أن تسمية هذا الكلام كذباً منظور فيه إلى ما يُفهمه أو يعطيه ظاهر الكلام وما هو بالكذب الصراح بل هو من المعاريض، أي أني مثل السقيم في التخلف عن الخروج، أو في التألم من كفرهم وأن قوله: «هي أختي» أراد أخوّةَ الإِيمان، وأنه أراد التهكم في قوله: {بل فعله كبيرهم هذا} [الأنبياء: 63] لظهور قرينة أن مراده التغليط. وهذه الأجوبة لا تدفع إشكالاً يتوجه على تسمية النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام بأنه كذبات. وجوابه عندي: أنه لم يكن في لغة قوم إبراهيم التشبيه البليغ، ولا المجازُ، ولا التهكّم، فكان ذلك عند قومه كذباً وأن الله أذِن له فعل ذلك وأعلمه بتأويله كما أذن لأيوب أن يأخذ ضغثاً من عِصيّ فيضرب به ضربةً واحدة ليُبرّ قسَمَه إذ لم تكن الكفارة مشروعة في دين أيوب عليه السلام. وفعل «راغ» معناه: حاد عن الشيء، ومصدره الرَّوغ والروغان، وقد أطلق هنا على الذهاب إلى أصنامهم مخاتلة لهم ولأجل الإِشارة إلى تضمينه معنى الذهاب عدّي ب {إلى}. وإطلاق الآلهة على الأصنام مراعىً فيه اعتقاد عبدتها بقرينة إضافتها إلى ضميرهم، أي إلى الآلهة المزعومة لهم. ومخاطبة إبراهيم تلك الأصنام بقوله: {ألا تأكلونُ ما لكم لا تَنطقونَ} وهو في حال خلوة بها وعلى غير مسمع من عَبَدَتِها قصد به أن يثير في نفسه غضباً عليها إذ زعموا لها الإلهية ليزداد قوة عزم على كسرها. فليس خطاب إبراهيم للأصنام مستعملاً في حقيقته ولكنه مستعمل في لازمه وهو تذكرُّ كذب الذين ألَّهوها والذين سَدَنوا لها وزعموا أنها تأكل الطعام الذي يضعونه بين يديها ويزعمون أنها تكلمهم وتخبرهم. ولذلك عقب هذا الخطاب بقوله: {فراغَ عليهم ضرباً باليمينِ.} وقد استعمل فعل (راغ) هنا مضمّناً معنى (أقبل) من جهة مائلة عن الأصنام لأنه كان مستقبلها ثم أخذ يضربها ذات اليمين وذات الشمال نظير قوله تعالى: {فيميلون عليكم} [النساء: 102]. وانتصب {ضَرْباً باليمين} على الحال من ضمير {فراغَ} أي ضارباً. وتقييد الضرب باليمين لتأكيد {ضَرْباً} أي ضرباً قوياً، ونظيره قوله تعالى: {لأخذنا منه باليمين} [الحاقة: 45] وقول الشماخ: إذا ما رايةٌ رُفعت لمجد *** تَلقَّاها عَرابَةُ باليمين فلما علموا بما فعل إبراهيم بأصنامهم أرسلوا إليه من يُحضره في ملئِهم حول أصنامهم كما هو مفصّل في سورة الأنبياء وأجمل هنا. فالتعقيب في قوله: {فأقبلوا إليه} تعقيب نسبي وجاءه المرسلون إليه مسرعين {يزفون} أي يعْدون، والزَّف: الإِسراع في الجري، ومنه زفيف النعامة وزفها وهو عَدْوها الأول حين تنطلق. وقرأ الجمهور {يَزِفُّونَ} بفتح الياء وكسر الزاي على أنه مضارع زفّ. وقرأه حمزة وخلف بضم الياء وكسر الزاي، على أنه مضارع أزفّ، أي شرعوا في الزفيف، فالهمزة ليست للتعدية بل للدخول في الفعل، مثل قولهم: أَدنف، أي صار في حال الدنف، وهو راجع إلى كون الهمزة للصيرورة. وجملة {قال أتعبدون ما تَنْحِتون} استئناف بيانيّ لأن إقبال القوم إلى إبراهيم بحالة تنذر بحنقهم وإرادة البطش به يثير في نفس السامع تساؤلاً عن حال إبراهيم في تلقّيه بأولئك وهو فاقد للنصير معرَّض للنكال فيكون {قال أتعبدون ما تنحتون} جواباً وبياناً لما يسأل عنه، وذلك منبئ عن رباطة جأش إبراهيم إذ لم يتلق القوم بالاعتذار ولا بالاختفاء، ولكنه لقِيهم بالتهكّم بهم إذ قال: {بل فعله كبيرهم} هذا كما في سورة [الأنبياء: 63]. ثم أنحى عليهم باللائمة والتوبيخ وتسفيه أحْلامهم إذ بلغوا من السخافة أن يعبدوا صوراً نحتوها بأيديهم أو نحتها أسلافهم، فإسناد النحت إلى المخاطبين من قبيل إسناد الفعل إلى القبيلة إذا فعله بعضها كقولهم: بَنو أسد قتلوا حُجْر بنَ عَمْرو أبا امرئ القيس. والنحت: بري العُود ليصير في شكل يُراد، فإن كانت الأصنام من الخشب فإطلاق النحت حقيقة، وإن كانت من حجارة كما قيل، فإطلاق النحت على نقشها وتصويرها مجاز. والاستفهام إنكاري والإِتيان بالموصول والصلة لما تشتمل عليه الصلة من تسلط فعلهم على معبوداتهم، أي أن شأن المعبود أن يكون فاعلاً لا منفعلاً، فمن المنكر أن تعبدوا أصناماً أنتم نحتموها وكان الشأن أن تكون أقلّ منكم. والواو في {والله خلقكم وما تعملون} واو الحال، أي أتيتم منكراً إذ عبدتم ما تصنعونه بأيديكم والحال أن الله خلقكم وما تعملون وأنتم مُعرِضون عن عبادته، أو وأنتم مشركون معه في العبادة مخلوقاتتٍ دونكم. والحال مستعملة في التعجيب لأن في الكلام حذفاً بعد واو الحال إذ التقدير: ولا تعبدون الله وهو خلقكم وخلق ما نحتموه. و {ما} موصولة و{تَعملُونَ} صلة الموصول، والرابط محذوف على الطريقة الكثيرة، أي وما تعملونها. ومعنى {تعملون} تنحتون. وإنما عدل عن إعادة فعل {تنحتون} لكراهية تكرير الكلمة فلما تقدّم لفظ {تَنْحِتُونَ} علم أن المراد ب {ما تعملون} ذلك المعمول الخاص وهو المعمول للنحت لأن العمل أعمّ. يقال: عملت قميصاً وعملتُ خاتماً. وفي حديث صنع المنبر «أرسل رسوُل الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار أنْ مُري غلامك النجّارَ يعمَلْ لي أعواداً أُكلّم عليها الناس» وخلق الله إياها ظاهر، وخلقه ما يعملونها: هو خلق المادة التي تصنع منها من حجر أو خشب، ولذلك جمع بين إسناد الخلق إلى الله بواو العطف، وإسنادِ العمل إليهم بإسناد فعل {تعملُونَ. وقد احتج الأشاعرة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى بهذه الآية على أن تكون ما} مصدرية أو تكون موصولة، على أن المراد: ما تعملونه من الأعمال. وهو تمسك ضعيف لما في الآية من الاحتمالين ولأن المقام يرجح المعنى الذي ذكرناه إذ هو في مقام المحاجّة بأن الأصنام أنفسها مخلوقة لله فالأولى المصير إلى أدلة أخرى.
{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)} {الجحيم}: النار الشديدة الوقود، وكلّ نار على نار وجمر فوق جمر فهو جحيم. وتقدمت هذه القصة ونظير هذه الآية في سورة الأنبياء، وعبر هنا ب {الأسْفَلِينَ} وهنالك ب {الأَخسرين} [الأنبياء: 70] والأسفل هو المغلوب لأن الغالب يُتخيل معتلياً على المغلوب فهو استعارة للمغلوب، والأخسر هنالك استعارة لمن لا يحصل من سعيه على بغيته.
{وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)} لما نجا إبراهيم من نارهم صمّم على الخروج من بلده (أُور الكلدانيين). وهذه أول هجرة في سبيل الله للبعد عن عبادة غير الله. والتوراة بعد أن طوت سبب أمر الله إياه بالخروج ذكر فيها أنه خرج قاصداً بلاد حَران في أرض كنعان (وهي بلاد الفينيقيين). والظاهر: أن هذا القول قاله علنَاً في قومه ليكفوا عن أذاهُ، وكان الأمم الماضون يُعدّون الجلاء من مقاطع الحقوق، قال زهير: وإن الحق مقطعه ثلاث *** يَمين أو نِفار أو جَلاء ولذلك لما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة لم يتعرض له قريش في بادئ الأمر ثم خافوا أن تنتشر دعوته في الخارج فراموا اللحاق به فحبسهم الله عنه. ويحتمل أن يكون قال ذلك في أهله الذين يريد أن يخرج بهم معه فمعنى {ذاهبٌ إلى ربي} مهاجر إلى حيث أعبد ربّي وحده ولا أعبد آلهة غيره ولا أفتَن في عبادته كما فتنت في بلدهم. ومراد الله أن يفضي إلى بلوغ مكة ليقيم هنالك أول مسجد لإِعلان توحيد الله فسلك به المسالك التي سلكها حتى بلغ به مكة وأودع بها أهلاً ونسلاً، وأقام بها قبيلة دينُها التوحيد، وبنى لله معبداً، وجعل نسله حفظة بيت الله، ولعلّ الله أطلعه على تلك الغاية بالوحي أو سترها عنه حتى وجد نفسه عندها فلذلك أنطقه بأن ذهابه إلى الله نطقاً عن علم أو عن توفيق. وجملة {سَيَهْدِينِ} يجوز أن تكون حالاً وهو الأظهر لأنه أراد إعلام قومه بأنه واثق بربه وأنه لا تردد له في مفارقتهم، ويجوز أن تكون استئنافاً؛ فعلى الأول هي حال من اسم الجلالة، ولا يمنع من جعل الجملة حالاً اقترانها بحرف الاستقبال فإن حرف الاستقبال يدل على أنها حال مقدّرة، والتقدير: أني ذاهب إلى ربّي مقدِّراً، كما لم يمتنع مجيء الحال معمولاً لعامل مستقبل كما في قوله تعالى: {سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60] وقوله تعالى: {إن معي ربي سيهدين} [الشعراء: 62] وقول سعد بن ناشب: سأغسل عني العار بالسيف جالباً *** علي قضاءُ الله ما كان جالباً وامتناع اقتران جملة الحال بعلامة الاستقبال في الإِثبات أو النفي مذهب بصري، وهو ناظر إلى غالب أحوال استعمال الحال، وجوازه مذهب كوفي كما ذكره ابن الأنباري في «الإنصاف»، والحق في جانب نحاة الكوفة. وقد تلقّف المذهب البصري معظمُ علماء العربية وتحيّر المحققون منهم في تأييده فلجأوا إلى أن علته استبشاع الجمع بين كون الكلمة حالاً وبين اقترانها بعلامة الاستقبال. ونُبينُه بأن الحال ما سميت حالاً إلا لأن المراد منها ثبوت وصف في الحال وهذا ينافي اقترانها بعلامة الاستقبال تنافياً في الجملة. هذا بيان ما وجّه به الرضيّ مذهب البصريين وتبعه التفتزاني في مبحث الحال من شرحه المطوّل على «تلخيص المفتاح». وفي مبحث الاستفهام ب (هل) منه. وقد زيف السيد الجرجاني في «حاشية المطوّل» ذلك التوجيه في مبحث الحال تزييفاً رشيقاً. ويجوز أن تكون جملة {سيهدينِ} مستأنفة وبذلك أجاب نحاة البصرة عن تمسك نحاة الكوفة بالآية في جواز اقتران الحال بعلَم الاستقبال، فالاستئناف بياني بياناً لسبب هجرته. وجملة {ربّ هب لي من الصالِحِينَ} بقية قوله فإنه بعد أن أخبر أنه مهاجر استشعر قلة أهله وعقم امرأته وثار ذلك الخاطر في نفسه عند إزماع الرحيل لأن الشعور بقلة الأهل عند مفارقة الأوطان يكون أقوى لأن المرء إذا كان بين قومه كان له بعض السلوّ بوجود قرابته وأصدقائه. ومما يدل على أنه سأل النسل ما جاء في سفر التكوين (الاصحاح الخامس عشر) «وقال أبرام إنك لم تعطني نسلاً وهذا ابن بيتي (بمعنى مولاه) وارث لي (أنهم كانوا إذا مات عن غير نسل ورثه مواليه)». وكان عمر إبراهيم حين خرج من بلاده نحواً من سبعين سنة. وقال في «الكشاف»: لفظ الهبة غلب في الولد. لعله يعني أن هذا اللفظ غلب في القرآن في الولد: ولا أحسبه غلب فيه في كلام العرب لأني لم أقف عليه وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً} [مريم: 53]. فحذف مفعول الفعل لدلالة الفعل عليه. ووصفه بأنه من الصالحين لأن نعمة الولد تكون أكمل إذا كان صالحاً فإن صلاح الأبناء قُرة عين للآباء، ومن صلاحهم برُّهم بوالديهم.
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)} الفاء في {فبشَّرناهُ} للتعقيب، والبشارة: الإِخبار بخير وارد عن قرب أو على بعد؛ فإن كان الله بشّر إبراهيم بأنه يولد له ولد أو يوجد له نسل عقب دعائه كما هو الظاهر وهو صريح في سفر التكوين في الإصحاح الخامس عشر فقد أخبره بأنه استجاب له وأنه يهبه ولداً بعد زمان، فالتعقيب على ظاهره؛ وإن كان الله بشره بغلام بعد ذلك حين حملت منه هاجر جاريته بعد خروجه بمدة طويلة، فالتعقيب نسبي، أي بشرناه حين قدّرنا ذلك أول بشارة بغلام فصار التعقيب آئلاً إلى المبادرة كما يقال: تزوج فولد له؛ وعلى الاحتمالين فالغلام الذي بشر به هو الولد الأول الذي ولد له وهو إسماعيل لا محالة. والحليم: الموصوف بالحلم وهو اسم يجمع أصالة الرأي ومكارم الأخلاق والرحمة بالمخلوق. قيل: ما نَعَتَ الله الأنبياء بأقلّ مما نعتهم بالحلم. وهذا الغلام الذي بشر به إبراهيم هو إسماعيل ابنه البكر وهذا غير الغلام الذي بشره به الملائكة الذين أرسلوا إلى قَوم لوط في قوله تعالى: {قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم} [الذاريات: 28] فذلك وُصف بأنه {عليم}. وهذا وصُف ب {حَلِيمٍ.} وأيضاً ذلك كانت البشارة به بمحضر سَارَة أمِّه وقد جُعلت هي المبشرة في قوله تعالى: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت: يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً} [هود: 72]، فتلك بشارة كرامة والأولى بشارة استجابة دعائه، فلما ولد له إسماعيل تحقق أمل إبراهيم أن يكون له وارث من صلبه. فالبشارة بإسماعيل لما كانت عقب دعاء إبراهيم أن يهب الله له من الصالحين عطفت هنا بفاء التعقيب، وبشارته بإسحاق ذكرت في هذه السورة معطوفة بالواو عطف القصة على القصة. والفاء في {فلمَّا بلغَ معهُ السَّعي} فصيحة لأنها مفصحة عن مقدر، تقديره: فولد له ويفع وبلغ السعي فلما بلغ السعي قال يا بنيّ الخ، أي بلغ أن يسعى مع أبيه، أي بلغ سنّ من يمشي مع إبراهيم في شؤونه. فقوله: {معه} متعلق بالسعي والضمير المستتر في {بلغ} للغلام، والضمير المضاف إليه {معه} عائد إلى إبراهيم. و{السعي} مفعول {بلغ} ولا حجة لمن منع تقدم معمول المصدر عليه، على أن الظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها من المعمولات. وكان عمُر إسماعيل يومئذٍ ثلاث عشرة سنة وحينئذٍ حدّث إبراهيم ابنه بما رآه في المنام ورؤيا الأنبياء وحي وكان أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة ولكن الشريعة لم يوح بها إليه إلا في اليقظة مع رؤية جبريل دون رؤيا المنام، وإنما كانت الرؤيا وحياً له في غير التشريع مثل الكشف على ما يقع وما أعد له وبعض ما يحل بأمته أو بأصحابه، فقد رأى في المنام أنه يهاجِر من مكة إلى أرض ذات نخل فلم يهاجر حتى أُذن له في الهجرة كما أخبر بذلك أبا بكر رضي الله عنه، ورأى بَقراً تُذبح فكان تأويل رؤياه مَن استشهد من المسلمين يوم أحد، ولقد يُرجَّح قول القائلين من السلف بأن الإِسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقظة وبالجسد على قول القائلين بأنه كان في المنام وبالروح خاصة، فإن في حديث الإِسراء أن الله فرَض الصلاة في ليلته والصلاة ثاني أركان الإِسلام فهي حقيقة بأن تفرض في أكمل أحوال الوحي للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو حال اليقظة فافهم. وأمر الله إبراهيم بذبح ولده أمرُ ابتلاء. وليس المقصود به التشريع إذ لو كان تشريعاً لما نسخ قبل العمل به لأن ذلك يفيت الحكمة من التشريع بخلاف أمر الابتلاء. والمقصود من هذا الابتلاء إظهار عزمه وإثبات علوّ مرتبته في طاعة ربّه فإن الولد عزيز على نفس الوالد، والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشدّ عزّة على نفسه لا محالة، وقد علمتَ أنه سأل ولداً لِيرثه نسله ولا يرثه مواليه، فبعد أن أقرّ الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه فينعدم نسله ويخيب أمله ويزول أنسه ويتولى بيده إعدام أحب النفوس إليه وذلك أعظم الابتلاء. فقابَل أمر ربه بالامتثال وحصلت حكمة الله من ابتلائه، وهذا معنى قوله تعالى: {إنَّ هذا لهو البلاء المبينُ} [الصافات: 106]. وإنما برز هذا الابتلاء في صورة الوحي المنامي إكراماً لإِبراهيم عن أن يزعج بالأمر بذبح ولده بوحي في اليقظة لأن رُؤَى المنام يعقبها تعبيرها إذ قد تكون مشتملة على رموز خفيّة وفي ذلك تأنيس لنفسه لتلقّي هذا التكليف الشاقّ عليه وهو ذبح ابنه الوحيد. والفاء في قوله: {فانظر ماذا ترى} فاء تفريع، أو هي فاء الفصيحة، أي إذا علمت هذا فانظر ماذا ترى. والنظر هنا نظر العقل لا نظر البصر فحقه أن يتعدّى إلى مفعولين ولكن علّقه الاستفهام عن العمل. والمعنى: تأمل في الذي تقابل به هذا الأمر، وذلك لأن الأمر لما تعلق بذات الغلام كان للغلام حظ في الامتثال وكان عرض إبراهيم هذا على ابنه عرض اختبار لمقدار طواعيته بإجابة أمر الله في ذاته لتحصل له بالرضى والامتثال مرتبة بذل نفسه في إرضاء الله وهو لا يرجو من ابنه إلا القبول لأنه أعلم بصلاح ابنه وليس إبراهيم مأموراً بذبح ابنه جبراً، بل الأمر بالذبح تعلق بمأمورين: أحدهما بتلقي الوحي، والآخرِ بتبليغ الرسول إليه، فلو قدر عصيانه لكان حاله في ذلك حال ابن نوح الذي أبى أن يركب السفينة لما دعاه أبوه فاعتُبر كافراً. وقرأ الجمهور {ماذا ترى} بفتح التاء والراء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم التاء وكسر الراء، أي مَاذا تُريني من امتثال أو عدمه. وحكى جوابه فقال: {يأبتتِ افعل ما تُؤمرُ} دون عطف، جرياً على حكاية المقاولات كما تقدم عند قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها} في سورة [البقرة: 30]. (وابتداء الجواب بالنداء واستحضار المنادى بوصف الأبوة وإضافة الأب إلى ياء المتكلم المعوض عنها التاء المشعر تعويضها بصيغة ترقيق وتحنّن. والتعبير عن الذبح بالموصول وهو {ما تُؤمَرُ} دون أن يقول: اذْبَحني، يفيد وحده إيماء إلى السبب الذي جَعل جوابه امتثالاً لذبحه. وحُذف المتعلق بفعل {تُؤمرُ} لظهور تقديره: أي ما تؤمر به. وبقي الفعل كأنه من الأفعال المتعدية، وهذا الحذف يسمى بالحذف والإِيصال، كقول عمرو بن معد يكرب: أمرتك الخيرَ فافعل ما أمرتَ به *** فقد تركتُكَ ذا مال وذا نشَب وصيغة الأمر في قوله: {افْعَلْ} مستعملة في الإِذن. وعدل عن أن يقال: اذبحني، إلى {افعل ما تؤمرُ} للجمع بين الإِذن وتعليله، أي أذنت لك أن تذبحني لأن الله أمرك بذلك، ففيه تصديق أبيه وامتثال أمر الله فيه. وجملة {ستَجِدُني} هي الجواب لأن الجمل التي قبلها تمهيد للجواب كما علمت فإنه بعد أن حثّه على فعل ما أُمر به وَعَده بالامتثال له وبأنه لا يجزع ولا يهلع بل يكون صابراً، وفي ذلك تخفيف من عبْء ما عسى أن يعرض لأبيه من الحزن لكونه يعامل ولده بما يكره. وهذا وعد قد وفّى به حين أمكن أباه من رقبته، وهو الوعد الذي شكره الله عليه في الآية الأخرى في قوله: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد} [مريم: 54]، وقد قرن وعده ب {إن شاء الله} استعانةً على تحقيقه. وفي قوله: {مِنَ الصابِرينَ} من المبالغة في اتصافه بالصبر ما ليس في الوصف: بصابر، لأنه يفيد أنه سيجده في عِداد الذين اشتهروا بالصبر وعرفوا به، ألاَ ترى أن موسى عليه السلام لما وعد الخضر قال: {ستجدني إن شاء الله صابِراً} [الكهف: 69] لأنه حُمل على التصبر إجابة لمقترح الخضر.
{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} {أسْلَمَا} استسلما. يقال: سلَّم واستسلم وأسلم بمعنى: انقاد وخضع، وحذف المتعلِّق لظهوره من السياق، أي أسلما لأمر الله فاستسلام إبراهيم بالتهيُّؤ لذبح ابنه، واستسلام الغلام بطاعة أبيه فيما بلغه عن ربه. و {تلّه}: صرعه على الأرض، وهو فعل مشتق من اسم التلّ وهو الصبرة من التراب كالكُدْية، وأما قوله في حديث الشُّرْب «فتلّه في يده» أي القَدح، فذلك على تشبيه شدة التمكين كأنه ألقاه في يده. واللام في {لِلجَبِينِ} بمعنى (على) كقوله: {يخرون للأذقان سجداً} [الإسراء: 107]، وقوله تعالى: {دعانا لجنبه} [يونس: 12]، ومعناها أن مدخولها هو أسفل جزء من صاحبه. والجبين: أحد جانبي الجبهة، وللجبهة جبينان، وليس الجبين هو الجبهة ولهذا خَطَّأوُا المتنبي في قوله: وَخَلِّ زِيّاً لمن يُحقِّقه *** ما كُل دَاممٍ جبينُه عَابِدْ وتبع المتنبيَ إطلاقُ العامة وهو خطأ، وقد نبه على ذلك ابن قتيبة في «أدب الكتاب» ولم يتعقبه ابن السيِّد البطليوسي في «الاقتضاب» ولكن الحريري لم يعدّه في «أوهام الخواصّ» فلعله أن يكون غفل عنه، وذكر مرتضَى في «تاج العروس» عن شيخه تصحيح إطلاق الجبين على الجبهة مجازاً بعلاقة المجاورة، وأنشد قول زهير: يَقيني بالجبين ومنكبيه *** وأدْفعه بمُطَّرد الكعوب وزعم أن شارح ديوان زهير ذكر ذلك. وهذا لا يصح استعماله إلا عند قيام القرينة لأن المجاز إذا لم يكثر لا يستحق أن يعد في معاني الكلمة على أنا لا نسلم أن زهيراً أراد من الجبين الجبهة. ولم يذكر هذا في الأساس. والمعنى: أنه ألقاه على الأرض على جانب بحيث يباشر جبينه الأرض من شدة الاتصال. ومناداة الله إبراهيم بطريق الوحي بإرسال الملك، أسندت المناداة إلى الله تعالى لأنه الآمر بها. وتصديق الرؤيا: تحقيقها في الخارج بأن يعمل صورة العمل الذي رآه يقال: رؤيا صادقة، إذا حصل بَعدها في الواقع ما يماثل صورةَ ما رآه الرائي قال الله تعالى: {لقد صدق اللَّه رسوله الرؤيا بالحق} [الفتح: 27]. وفي حديث عائشة: «أول ما بُدِئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤياً إلا جاءت مثل فَلَق الصبح». وبضد ذلك يقال: كذبتْ الرؤيا، إذا حصل خلاف ما رأى. وفي الحديث: " إذا اقترب الزمان لم تكد تَكذب رؤيا المؤمن "، فمعنى {قد صدَّقْتَ الرؤيا} قد فعلتَ مثل صورة ما رأيت في النوم أنك تفعله. وهذا ثناء من الله تعالى على إبراهيم بمبادرته لامتثال الأمر ولم يتأخر ولا سأل من الله نسخ ذلك. والمراد: أنه صدق ما رآه إلى حدِّ إمرار السكين على رقبة ابنه، فلما ناداه جبريل بأن لا يذبحه كان ذلك الخطابُ نسخاً لما في الرؤيا من إيقاع الذبح، وذلك جاء من قِبل الله لا من تقصير إبراهيم، فإبراهيم صدَّق الرؤيا إلى أن نهاه الله عن إكمال مِثالها، فأُطلق على تصديقه أكثرَها أنه صدَّقها، وجُعِل ذبح الكبش تأويلاً لذبح الولد الواقع في الرؤيا. وجملة {إنَّا كذلك نَجزي المحسنين} تعليل لجملة {وناديناهُ} لأن نداء الله إياه ترفيع لشأنه فكان ذلك النداء جزاء على إحسانه. وهذه الجملة يجوز أن تكون من خطاب الله تعالى إبراهيمَ، ويجوز أن تكون معترضة بين جُمل خطاب إبراهيم، والإِشارة في قوله: {كذلك} إلى المصدر المأخوذ من فعل {صَدَّقتَ} من المصدر وهو التصديق مثل عَود الضمير على المصدر المأخوذ من {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8]، أي إنا نجزي المحسنين كذلك التصديق، أي مثل عظمة ذلك التصديق نجزي جزاءً عظيماً للمحسنين، أي الكاملين في الإِحسان، أي وأنت منهم. ولِما يتضمنه لفظ الجزاء من معنى المكافأة ومماثلة المجزي عليه عُظم شأن الجزاء بتشبيهه بمشبه مشار إليه بإشارة البعيد المفيد بُعداً اعتبارياً وهو الرفعة وعُظم القدر في الشرف، فالتقدير: إنا نجزي المحسنين جزاء كذلك الإِحسان الذي أحسنتَ به بتصديقك الرؤيا، مكافأة على مقدار الإِحسان فإنه بذل أعَزّ الأشياء عليه في طاعة ربّه فبذل الله إليه من أحسن الخيرات التي بيده تعالى، فالمشبه والمشبه به معقولان إذ ليس واحد منهما بمشاهد ولكنهما متخيَّلان بما يتسع له التخيّل المعهود عند المحسنين مما يقتضيه اعتقادهم في وعْد الصادق من جزاءِ القادر العظيم، قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60]. ولِمَا أفاد اسم الإِشارة من عظمة الجزاء أُكّد الخبر ب {إنَّ لدفع توهم المبالغة، أي هو فوق ما تعْهده في العظمة وما تُقدره العقول. وفهم من ذكر المحسنين أن الجزاء إحسان بمثل الإِحسان فصار المعنى: إنا كذلك الإِحسان العظيم الذي أحسنته نجزي المحسنين، فهذا وعد بمراتب عظيمة من الفضل الرباني، وتضمن وعد ابنه بإحسان مثله من جهة نوط الجزاء بالإِحسان، وقد كان إحسان الابن عظيماً ببذل نفسه. وقد أكد ذلك بمضمون جملة إن هذا لهو البلاء المبين} أي هذا التكليف الذي كلّفناك هو الاختبار البيّن، أي الظاهر دلالة على مرتبة عظيمة من امتثال أمر الله. واستعمل لفظ البلاء مجازاً في لازمه وهو الشهادة بمرتبةِ مَن لو اختُبر بمثل ذلك التكليف لعُلمت مرتبته في الطاعة والصبر وقوة اليقين. وجملة {إن هذا لهو البلاء المبين} في محل العلة لجملة {إنَّا كذلك نجزي المحسنين} على نحو ما تقدم في موقع جملة {إنه من عبادنا المؤمنين} [الصافات: 81] في قصة نوح. وجواب {فلمَّا أسلما} محذوف دل عليه قوله: {وناديناهُ،} وإنما جيء به في صورة العطف إيثاراً لما في ذلك من معنى القصة على أن يكون جواباً لأن الدلالة على الجواب تحصل بعطف بعض القصة دون العكس، وحذفُ الجواب في مثل هذا كثير في القرآن وهو من أساليبه ومثله قوله تعالى: {فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون، وجاءوا أباهم عشاء يبكون} [يوسف: 15- 16]. وجملة {وفديناهُ} يظهر أنها من الكلام الذي خاطب الله به إبراهيم. والمعنى: وقد فدينا ابنَك بذبح عظيم ولولا هذا التقدير تكون حكاية نداء الله إبراهيم غير مشتملة على المقصود من النداء وهو إبطال الأمر بذبح الغلام. والفِدَى والفداء: إعطاء شيء بدلاً عن حق للمعطَى، ويطلق على الشيء المفدَى به من إطلاق المصدر على المفعول. وأسند الفداء إلى الله لأنه الآذِن به، فهو مجاز عقلي، فإن الله أوحى إلى إبراهيم أن يذبح الكبش فداء عن ذبح ابنه وإبراهيم هو الفادي بإذن الله، وابن إبراهيم مُفْدىً. والذِبح بكسر الذال: المذبوح ووزن فِعل بكسر الفاء وسكون عين الكلمة يكثر أن يكون بمعنى المفعول مما اشتق منه مثل: الحِب والطِحن والعِدل. ووصفه ب {عَظِيمٍ} بمعنى شرف قدر هذا الذِبح، وهو أن الله فدَى به ابن رسوللٍ وأبقى به من سيكون رسولاً فعِظمه بعظم أثره، ولأنه سخره الله لإِبراهيم في ذلك الوقت وذلك المكان. وقد أشارت هذه الآيات إلى قصة الذبيح ولم يسمه القرآن لعله لئلا يثير خلافاً بين المسلمين وأهل الكتاب في تعيين الذبيح مِن ولدَيْ إبراهيم، وكان المقصد تألف أهل الكتاب لإِقامة الحجة عليهم في الاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديققِ القرآن، ولم يكن ثَمة مقصد مهمّ يتعلق بتعيين الذبيح ولا في تخطئة أهل الكتاب في تعيينه، وأمارة ذلك أن القرآن سمّى إسماعيل في مواضع غيرِ قصة الذبح وسمَّى إسحاق في مواضع، ومنها بشارة أمه على لسان الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم لُوط، وذكر اسمَيْ إسماعيل وإسحاق أنهما وُهبا له على الكِبر ولم يسمّ أحداً في قصة الذبح قصداً للإِبهام مع عدم فوات المقصود من الفضل لأن المقصود من القصة التنويه بشأن إبراهيم فأي ولديه كان الذبيح كان في ابتلائه بذبحه وعزمه عليه وما ظهر في ذلك من المعجزة تنويهٌ عظيم بشأن إبراهيم وقال الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46] وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " روى الحاكم في «المستدرك» عن معاوية بن أبي سفيان أن أحد الأعراب قال للنبيء صلى الله عليه وسلم يا ابن الذبيحين فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعني أنه من ولد إسماعيل وهو الذبيح وأن أباه عبدَ الله بن عَبد المطلب كان أبوه عبد المطلب نذر: لئن رزقه الله بعشرة بنين أن يذبح العاشر للكعبة، فلما وُلد عبد الله وهو العاشر عزَم عبد المطلب على الوفاء بنذره، فكلّمه كبراء أهل البطاح أن يعْدِلَه بعشرة من الإِبل وأن يستقسم بالأزلام عليه وعلى الإِبل فإن خرج سَهم الإِبل نحرها، ففعل فخرج سهم عبد الله، فقالوا: أرضضِ الآلهة، أي الآلهة التي في الكعبة يومئذٍ، فزاد عشرة من الإِبل واستقسم فخرج سهم عبد الله، فلم يزالوا يقولون: أرْضضِ الآلهة ويزيد عبد المطلب عشرة من الإِبل ويعيد الاستقسام ويخرج سهم عبد الله إلى أن بلغ مائة من الإِبل واستقسم عليهما فخرج سَهم الإِبل فقالوا رَضِيتْ الآلهة فذبحها فداءً عنه. وكانت منقبة لعبد المطلب ولابنه أبي النبي صلى الله عليه وسلم تشبه منقبة جدّه إبراهيم وإن كانت جرت على أحوال الجاهلية فإنها يستخلص منها غيرُ ما حفّ بها من الأعراض الباطلة، وكان الزمان زمان فترة لا شريعةَ فيه ولم يَرد في السنة الصحيحة ما يخالف هذا. إلا أنه شاع من أخبار أهل الكتاب أن الذبيح هو إسحاق بن إبراهيم بناء على ما جاء في «سفر التكوين» في «الإِصحاح» الثاني والعشرين وعلى ما كان يقصّه اليهود عليهم، ولم يكن فيما علموه من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ما يخالفه ولا كانوا يسألونه. والتأمُّل في هذه الآية يقوّي الظن بأن الذبيح إسماعيل، فإنه ظاهر قوي في أن المأمور بذبحه هو الغلام الحليم في قوله: {فبشَّرناهُ بغلاممٍ حَليمٍ} [الصافات: 101] وأنه هو الذي سأل إبراهيمُ ربه أن يهب له فساقت الآية قصة الابتلاء بذبح هذا الغلام الحليم الموهوب لإِبراهيم، ثم أعقبت قصته بقوله تعالى: {وبشرناهُ بإسحاق نبيئاً من الصالِحِين} [الصافات: 112]، وهذا قريب من دلالة النص على أن إسحاق هو غير الغلام الحليم الذي مضى الكلام على قصته لأن الظاهر أن قوله: {وبشرناه} [الصافات: 112] بشارة ثانية وأن ذكر اسم إسحاق يدل على أنه غير الغلام الحليم الذي أجريت عليه الضمائر المتقدمة. فهذا دليل أول. الدليل الثاني: أن الله لما ابتلى إبراهيم بذبح ولده كان الظاهر أن الابتلاء وقع حين لم يكن لإِبراهيم ابنٌ غيره لأن ذلك أكمل في الابتلاء كما تقدم. الدليل الثالث: أن الله تعالى ذكر: {فبشرناه بغلام حليم} [الصافات: 101] عَقِبَ ما ذكر من قول إبراهيم: {رب هب لي من الصالحين} [الصافات: 100]، فدل على أن هذا الغلام الحليم الذي أمر بذبحه هو المبشَّر به استجابةً لدعوته، وقد ظهر أن المقصود من الدعوة أن لا يكون عقيماً يرثه عبيدُ بيته كما جاء في «سفر التكوين» وتقدم آنفاً. الدليل الرابع: أن إبراهيم بنَى بيتاً لله بمكة قبل أن يبني بيتاً آخر بنحو أربعين سنة كما في حديث أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن شأن بيوت العبادة في ذلك الزمان أن تقرّب فيها القرابين فقربان أعز شيء على إبراهيم هو المناسب لكونه قرباناً لأشرف هيكل. وقد بقيت في العرب سنة الهدايا في الحج كل عام وما تلك إلا تذكرة لأول عام أُمر فيه إبراهيم بذبح ولده وأنه الولد الذي بمكة. الدليل الخامس: أن أعرابياً قال للنبيء صلى الله عليه وسلم يابن الذبيحين، فعلم مراده وتبسَّم، وليس في آباء النبي صلى الله عليه وسلم ذبيح غير عبد الله وإسماعيل. الدليل السادس: ما وقع في «سفر التكوين» في الإِصحاح الثاني والعشرين أن الله امتحن إبراهيم فقال له: «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريا وأصعده هنالك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك» إلى آخر القصة. ولم يكن إسحاق ابناً وحيداً لإِبراهيم فإن إسماعيل وُلد قبله بثلاث عشرة سنة. ولم يزل إبراهيم وإسماعيل متواصلين وقد ذكر في الإِصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين عند ذكر موت إبراهيم عليه السلام «ودفَنه إسحاق وإسماعيلُ ابناه»، فإقحام اسم إسحاق بعد قوله: ابنَك وحيدَك، من زيادة كاتب التوراة. الدليل السابع: قال صاحب «الكشاف»: ويدل عليه أن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدي بنِي إسماعيل إلى أن احترق البيت في حصار ابن الزبير ا. ه. وقال القرطبي عن ابن عباس: والذي نفسي بيده لقد كان أول الإِسلام وأن رأس الكبش لمعلق بقرنيه من ميزاب الكعبة وقد يبس. قلت: وفي صحة كون ذلك الرأس رأسَ كبش الفداء من زمن إبراهيم نظر. الدليل الثامن: أنه وردت روايات في حكمة تشريع الرمي في الجمرات من عهد الحنيفية أن الشيطان تعرض لإِبراهيم ليصدّه عن المضيّ في ذبح ولده وذلك من مناسك الحجّ لأهل مكة ولم تكن لليهود سُنَّة ذبح معين. وذكر القرطبي عن ابن عباس: أن الشيطان عرض لإِبراهيم عند الجمرات ثلاث مرات فرجمه في كل مرة بحصيات حتى ذهب من عند الجمرة الأخرى. وعنه: أن موضع معالجة الذبح كان عند الجمار وقيل عند الصخرة التي في أصل جبل ثبير بمنى. الدليل التاسع: أن القرآن صريح في أن الله لمّا بشر إبراهيم بإسحاق قرن تلك البشارة بأنه يولد لإِسحاق يعقوب، قال تعالى: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} [هود: 71] وكان ذلك بمحضر إبراهيم فلو ابتلاه الله بذبح إسحاق لكان الابتلاء صورياً لأنه واثق بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب لأن الله لا يخلف الميعاد. ولمّا بشره بإسماعيل لم يَعِدْه بأنه سيُولد له وما ذلك إلا توطئة لابتلائه بذبحه فقد كان إبراهيم يدعو لحياة ابنه إسماعيل. فقد جاء في «سفر التكوين» الإِصحاح السابع عشر «وقال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك فقال الله: بل سارة تلد لك ابناً وتدعو اسمه إسحاق وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً لنسله من بعده». ويظهر أن هذا وقع بعد الابتلاء بذبحه. الدليل العاشر: أنه لو كان المراد بالغلام الحليم إسحاق لكان قوله تعالى بعد هذا: {وبشرناه بإسحاق نبيئاً من الصالِحينَ} [الصافات: 112] تكريراً لأن فعل: بشرناه بفلان، غالب في معنى التبشير بالوجود. واختلف علماء السلف في تعيين الذبيح فقال جماعة من الصحابة والتابعين: هو إسماعيل وممن قاله أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة وعبد الله بن عُمر وابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان. وقاله من التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد وعلقمة والكلبي والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القُرظي وأحمد بن حنبل. وقال جماعة: هو إسحاق ونقل عن ابن مسعود والعباس بن عبد المطلب وجابر بن عبد الله وعمر وعلي من الصحابة، وقاله جمع من التابعين منهم: عطاء وعكرمة والزهري والسّدِّي. وفي «جامع العتبية» أنه قول مالك بن أنس. فإن قلت: فعلامَ جنحتَ إليه واستَدللت عليه من اختيارك أن يكون لابتلاء بذبح إسماعيل دون إسحاق، فكيف تتأول ما وقع في «سفر التكوين»؟ قلت: أرى أن ما في «سفر التكوين» نُقِل مشتّتاً غير مرتبة فيه أزمان الحوادث بضبط يعين الزمن بين الذبح وبين أخبار إبراهيم، فلما نقَل النقلةُ التوراة بعد ذهاب أصلها عقب أسر بني إسرائيل في بلاد أشور زمن بختنصر، سجلت قضية الذبيح في جملة أحوال إبراهيم عليه السلام وأدمج فيها ما اعتقده بنو إسرائيل في غربتهم من ظنهم الذبيح إسحاق. ويدل لذلك قول الإِصحاح الثاني والعشرين «وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال خذ ابنك وحيدك» الخ؛ فهل المراد من قولها: بعد هذه الأمور، بعد جميع الأمور المتقدمة أو بعد بعض ما تقدم.
|